كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع: {قول} على أنه الاسم، وأن المصدرية، وما في حيزها الخبر، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان، وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسمًا.
وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين، ولم يفرق هذه التفرقة، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله، ورسوله للحكم بين المتخاصمين، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: أن يقولوا هذا القول لا قولًا آخر، وهذا، وإن كان على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر.
والمعنى: أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة، والإذعان.
قال مقاتل، وغيره: يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه، ويضرّهم، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: {أولئك} أي: المؤمنون الذين قالوا هذا القول {هُمُ المفلحون} أي: الفائزون بخير الدنيا والآخرة.
ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفائزون} وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من حسن حال المؤمنين، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم، والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله، والخشية من الله عزّ وجلّ، والتقوى له.
قرأ حفص {ويتقه} بإسكان القاف على نية الجزم.
وقرأ الباقون بكسرها، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون.
قال ابن الأنباري: وقراءة حفص هي على لغة من قال: لم أر زيدًا، ولم أشتر طعامًا، يسقطون الياء للجزم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر:
قالت سليمى اشتر لنا دقيقًا

وقول الآخر:
عجبت لمولود وليس له أب ** وذي ولد لم يلده أبوان

وأصله يلد بكسر اللام، وسكون الدال للجزم، فلما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأوّل لرجع إلى ما وقع الفرار منه، فحرك ثانيهما، وهو: الدال.
ويمكن أن يقال: إنه حرك الأوّل على أصل التقاء الساكنين، وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة، ولا يضرّ الرجوع إلى ما وقع الفرار منه، فهذه الحركة غير تلك الحركة، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون} إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة، والخشية، والتقوى أي: هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي لا من عداهم.
ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} أي: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، و{جهد أيمانهم} منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له أي: أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدًا.
ومعنى {جَهْدَ أيمانهم}: طاقة ما قدروا أن يحلفوا، مأخوذ من قولهم: جهد نفسه: إذا بلغ طاقتها، وأقصى وسعها.
وقيل: هو منتصب على الحال والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك، وطاقتك، وقد خلط الزمخشري الوجهين، فجعلهما واحدًا.
وجواب القسم قوله: {لَيُخْرِجَنَّ} ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة، وأيمانهم فاجرة ردّ الله عليهم، فقال {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} أي: ردّ عليهم زاجرًا لهم، وقل لهم: لا تقسموا أي: لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة، والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به، وهاهنا تمّ الكلام.
ثم ابتدأ، فقال: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ، لأنها قد خصصت بالصفة، ويكون الخبر مقدّرًا أي: طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف أي: لتكن منكم طاعة، أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلاّ إذا تقدّم ما يشعر به.
وقرأ زيد بن عليّ، والترمذي {طاعة} بالنصب على المصدر لفعل محذوف أي: أطيعوا طاعة {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال، وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم، وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق.
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله، فقال: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} طاعة ظاهرة، وباطنة بخلوص اعتقاد، وصحة نية، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} في حكم الأمر بالطاعة، وقيل: إنهما مختلفان، فالأوّل نهي بطريق الردّ، والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم، والإيجاب عليهم {فَإِن تَوَلَّوْاْ} خطاب للمأمورين، وأصله: فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم، والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة، والانقياد، وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} أي: فاعلموا أنما على النبي صلى الله عليه وسلم ما حمل مما أمر به من التبليغ، وقد فعل، وعليكم ما حملتم أي: ما أمرتم به من الطاعة، وهو وعيد لهم، كأنه قال لهم: فإن توليتم، فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل {وَإِن تُطِيعُوهُ} فيما أمركم به، ونهاكم عنه {تَهْتَدُواْ} إلى الحق، وترشدوا إلى الخير، وتفوزوا بالأجر، وجملة: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} مقرّرة لما قبلها، واللام إما للعهد، فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وإما للجنس، فيراد كل رسول، والبلاغ المبين: التبليغ الواضح، أو الموضح.
قيل: يجوز أن يكون قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} ماضيًا، وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأوّل أرجح.
ويؤيده الخطاب في قوله: {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} وفي قوله: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} ويؤيده أيضًا قراءة البزي {فإن تولوا} بتشديد التاء، وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين.
{وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة.
وقيل: هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله، فقد أطاع الله ورسوله، واللام في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض} جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض}: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال: إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} كل من استخلفه الله في أرضه، فلا يخصّ ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها.
قرأ الجمهور {كَمَا استخلف} بفتح الفوقية على البناء للفاعل.
وقرأ عيسى بن عمر، وأبو بكر، والمفضل، عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل الكاف النصب على المصدرية أي: استخلافًا كما استخلف، وجملة {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت، والتقرير أي: يجعله الله ثابتًا مقرّرًا، ويوسع لهم في البلاد، ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} [المائدة: 3].
ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أوّلًا، وهو جعلهم ملوكًا، وذكر التمكين ثانيًا، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض، والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون الملك لهم، ولعقبهم من بعدهم.
وجملة {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} معطوفة على التي قبلها.
قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر: {ليبدلنهم} بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختارها أبو حاتم.
وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل، واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف.
قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقًا، وأنه يقال: بدّلته أي: غيرته، وأبدلته: أزلته، وجعلت غيره.
قال النحاس، وهذا القول صحيح.
والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنًا، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلاّ الله سبحانه، ولا يرجون غيره.
وقد كان المسلمون قبل الهجرة، وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلاّ في السلاح، ولا يمسون ويصبحون إلاّ على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن، والدعة، وأذلّ الله لهم شياطين المشركين، وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة {يَعْبُدُونَنِي} في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني أي: يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئًا من الأشياء، وقيل: معناه لا يراؤون بعبادتي أحدًا، وقيل: معناه لا يخافون غيري، وقيل: معناه لا يحبون غيري {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} أي: من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمرّ على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون، هم الفاسقون؛ أي: الكاملون في الفسق.
وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر.
وجملة {وَأَقِيمُواْ الصلاة} معطوفة على مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم، كأنه قيل لهم: فآمنوا، واعملوا صالحًا، وأقيموا الصلاة، وقيل: معطوف على {وَأَطِيعُواْ الله} وقيل التقدير: فلا تكفروا، وأقيموا الصلاة.
وقد تقدّم الكلام على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكرّر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد، وخصه بالطاعة، لأن طاعته طاعة لله، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرّر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه {لا تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ في الأرض} قرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو حيوة {لا يحسبنّ} بالتحتية بمعنى: لا تحسبنّ الذين كفروا، وقرأ الباقون بالفوقية أي: لا تحسبنّ يا محمد، والموصول المفعول الأوّل، ومعجزين الثاني، لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين، قاله الزجاج والفرّاء وأبو علي.
وأما على القراءة الأولى، فيكون المفعول الأوّل محذوفًا أي: لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم.
قال النحاس: وما علمت أحدًا بصريًا ولا كوفيًا إلاّ وهو يخطّىء قراءة حمزة، و{معجزين} معناه: فائتين.
وقد تقدّم تفسيره، وتفسير ما بعده.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول} الآية قال: أناس من المنافقين أظهروا الإيمان، وهم في ذلك يصدّون عن سبيل الله وطاعته، وجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجوا أيضًا عن الحسن قال: إن الرجل كان يكون بينه، وبين الرجل خصومة، أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محقّ أذعن، وعلم أن النبي سيقضي له بالحقّ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال: أنطلق إلى فلان، فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {هُمُ الظالمون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان بينه وبين أخيه شيء، فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين، فلم يجب، فهو ظالم لا حقّ له» قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه: وهذا حديث غريب، وهو مرسل.